المتنبى... أشهر شعراء العرب (3)
baladna :: المنتدى الثقافى :: شعر
صفحة 1 من اصل 1
المتنبى... أشهر شعراء العرب (3)
ولكن يظهر أن سجنه قد طال، وبسبب من اضطهاده وإلحاق الجوع والمرض والاغتراب عليه، كتب إلى والي حمص قصيدة يستعطفه بها ومطلعها:
أيا خدد الله ورد الخدود
وقدَّ قدود الحسان القدود
فهنَّ أسلن دمًا مقلتي
وعذبن قلبي بطول الصدود
وكم للهوى من فتى مدنف
وكم للنوى من قتيل شهيد
فواحسرتا ما أمـرَّ الفراق
وأعلق نيرانه بالكبود
إلى أن يصل قوله:
أمالك رِقِّي ومن شأنه
هبات اللجين وعتق العبيد
دعوتك عند انقطاع الرجا
ء والموت مني كحبل الوريد
دعوتك لما براني البلاء
وأوهن رجلي ثقل الحديد
وقد كان مشيهما بالنعال
وقد صار مشيهما في القيود
وكنت من الناس في محفل
وها أنا في محفل من قرود
تعجل فيَّ وجـوب الحدود
وحدّي قبل وجوب السجود
وقيل عدوت عن العالمين
بين ولادي وبين القعـود
فما لـك تقبل زور الكلا
م وقدر الشهادة قدر الشهود
فلا تسمعن من الكاشحين
ولا تعبأن بمحك اليهود
وكن فارقًا بين دعوى أردت
ودعوى فعلت بشأو بعيـد
تلك الأبيات تدلنا على أن هناك أعداء كادوا للمتنبي فسجنوه، وأنه لم يفعل ما اتهموه به. وقد أثارت القصيدة عطف الوالي عليه، فأخرجه من السجن وأطلقه واستتابه فيما يظهر، ولكن استتابته مما نسبه إليه العامة، ولم يكن بعسير على المتنبي أن يعلن توبته، وقد رأيناه أنه لم يدع هذه النبوة، وكانت الفترة التي قضاها المتنبي بعد خروجه من السجن فترة تشرد وفاقة وضعة وخمول كان يتصل بالوجهاء وأصحاب المكانة يمدحهم فلا يجيزونه على الشعر، إلا أهون الجزاء. يقولون إنه مدح أحد الوجهاء بالقصيدة المشهورة التالية التي مطلعها:
بأبي الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحرير جلاببا
فجزاه عليها دينارا. ولم تحسن حاله حتى قصد أنطاكية ، واتصل هناك بالأمير أبي العشائر ومدحه بعدة قصائد كان أولها:
أتراها لكثـرة العشاق
تحسب الدمع خلقة في المآقي
فقربه أبو العشائر وحسنت حاله عنده. كان أبو العشائر هذا قريبا لسيف الدولة علي بن حمدان رأس الدولة الحمدانية، فيسر له الوصول إليه، وكان ذلك سنة 337هـ. ودامت صحبة أبي الطيب للأمير ثمان سنوات، وخصص للشاعر ثلاثة آلاف دينار كل سنة عدا الهبات السخية والعطاء المتواصل من مال وثياب وخيول ومزارع، وخلد مقابل ذلك وقائعه مع الروم بقصائد قلَّ أن نجد لها نظيرا في الشعر العربي. ثم حدث ما عكر الصفو، فقصد الشاعر مصر.. فالمتنبي وإن كان قبل اتصاله بسيف الدولة مغمورا ثم تبلورت حياته تبلورا واضحا بعد اتصاله به، إلا أن نفسه كانت تضطرم بثورة أكَّالة، وهو لم يزل في عنفوان الشباب، فقد شرَّق وغرَّب. مكافحًا مناضلا، وعاش مع طموحه في صراع مرير يروي البديعي: كان أبو العشائر والي أنطاكية من قبل سيف الدولة، ولما قدم سيف الدولة أنطاكية قدم المتنبي إليه وأثنى عنده عليه وعرفه منزلته من الشعر والأدب واشترط على سيف الدولة أول اتصاله به أنه إذا أنشده مديحه لا ينشده إلا وهو قاعد وأنه لا يكلف تقبيل الأرض بين يديه. ودخل سيف الدولة تحت هذه الشروط وتطبع إلى ما يريد منه وذلك في سنة 337هـ وحسن موقعه عنده فقربه وأجازه الجوائز السنية ومالت نفسه إليه وأحبه فسلمه للرواض فعلموه الفروسية والطراد والمثاقفة . نال أبو الطيب جاها وحظوة من لدن سيف الدولة، ولكن من أين للشاعر المتعالي المقيم على قلق، أن يهدأ أو بالأحرى أن تهدأ خواطر الذين قطع عليهم بشعره أرزاقهم، أو أقصى منزلتهم من الأمير الذي أجل شاعره في أكرم منزلة. لقد بدأت الوشايات والسعايات في بلاط سيف الدولة تعمل عملها، حتى لقيت في نفس الأمير أكثر من صدى، فتحول حماسه لشاعره إلى فتور، ولا نقول جفاء، خصوصا وأن وراء الوشايات والسعايات كبارا من أمثال أبي فراس الحمداني وابن خالويه والنامي وسواهم من رجال البلاط
وعندها علت صيحات الشعراء وشكواهم من تعالي أبي الطيب عليهم، فأثر ذلك في سيف الدولة ثم قويت نفرته مع أبي الطيب، فأمر غلمانه بقتله، فتعرضوا له في الطريق، غير أنه استطاع تفريقهم عنه واختفى في حلب لدى بعض أصدقائه، وراسل الأمير فأنكر أنه أمر له بسوء، وبعد تسعة عشر يوما جاء إلى القصر، ورحب به سيف الدولة، وخلع عليه وسأله عن حاله، فأجاب: رأيت الموت عندك أحب إلي من الحياة عند غيرك. وكان أشياعه ينشرون مدائحه ويذيعون فضائله ويتأولون به، وأعداؤه يخنقون عليه ويغضون من شأنه. وفي ذات مرة قال أبو فراس شاعر البلاط الحمداني لابن عمه:
(هذا المتشدق كثير الإدلال عليك. فأنت تعطيه ثلاثة آلاف دينار كل سنة على ثلاث قصائد ويمكنك أن تغدق مئتي دينار على عشرين شاعرا يأتون بما هو خير من شعره . (غير أن أبا الطيب فارق سيف الدولة حانقا متبرما فلعل وقوفه بين يدي كافوروهو من أعداء سيف الدولة يثير غيظه، أو لعله أراد به مصانعة كافور لينال منه الذي وفد عليه من أجله على أنه - وإن ترك معه ما جرت به عادته مع سيف الدولة - فقد اتخذ لعزته لونًا آخر، فقد كان يقف بين يديه وفي رجليه خفان وفي وسطه سيفه ومنطقته.
أقام أبو الطيب في مصر أربع سنوات ونصف سنة وعرض في مدائحه لكافور بسيف الدولة ورضي أن ينشد شعره واقفا بين يديه على خلاف عادته، ولقي الشاعر من كرم كافورما جعله في مصاف الأغنياء. ولكنه ما لبث أن أسفر عن أطماعه الأولى، فطلب أن يتولى (ولاية) أو (إمارة) وألح في طلبه هذا وألحف، ومدح نفسه في مطلع القصائد التي مدح بها سيده الجديد. ولما رأى كافور يماطله ويؤجل تنفيذ رغبته، راح يشكو أمله ويمتدح سيف الدولة ويعلن أسفه على فراقه. ودبت النفرة بين الرجلين، وانقطع أبو الطيب عن مدحه ثمانية أشهر، ثم نظم قصيدة ظاهرها المدح وباطنها التأنيب. ثم أصيب بالحمى ونظم أثناء مرضه قصيدة عرض فيها بكافور وبخله. ولم يكن كافورأهلا لهذا الهجاء ربما منع الشاعر ولاية أو ضيعة ولكنه استحقه بما وعد ومطل، ثم أخلف فملأ نفس الشاعر الطموح غيظا. تناقل الناس القصيدة وبلغت كافورا فامتعض. وكانت بين كافور وفاتك الرومي منافسة عنيفة، وكان الثاني يقيم بالفيوم (وهي إقطاعة له) حتى لا يضطر الركوب في معية الأسود، واتصل فاتك بأبي الطيب وراسله، والتقيا في الصحراء، فكانت هديته للشاعر ألف دينار ذهبا أتبعها بعدة هدايا ثمينة، فمدحه بقصيدة وخز فيها كافورا وخزا مؤلمًا.
أما كافورفقد كظم غيظه، وطلب من الشاعر أن يعود إلى سيرته الأولى في مدحه، فتجددت آماله، وحسب أن الوالي - أو كما يلقبه (أبو المسك) و(الأستاذ) سيبرّ بوعده في النهاية، ونظم قصيدة طويلة كرر فيها طلباته السابقة وملأها لوما وتوبيخا، فغضب أبو المسك ومنع الشاعر عن الرحيل وبث حوله العيون والأرصاد. ولما حل العيد وشغلت احتفالاته رجال الدولة هرب أبو الطيب ونظم قصيدته المشهورة هذه عند خروجه من مصر ، ومطلعها:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم بأمر منك تجديد
وسار في درب غير مطروقة، وعلم كافور بالأمر، فكتب إلى عماله أن يقتفوا آثاره ويعتقلوه، لكنه استطاع الإفلات بعد رحلة مضنية حتى وصل الكوفة بعد ثلاثة أشهر..
هجا الشاعر كافورا وأفحش، وجاءت كل كلمة في قصائده شواظا من نار. وبقي في العراق ثلاث سنوات، ومر ببغداد عدة مرات، وأبى أن يمدح الوزير المهلبي، فأغرى به جماعة من شعراء العاصمة، أفرطوا في شتمه وتحقيره فلم يجبهم. علم سيف الدولة بخروج الشاعر من مصر مخاصما لكافور ، وبلغته قصائده في هجوه، فبعث إليه بالهدايا، وسأله القدوم إلى حلب ، فعاد إلى مدحه، ثم بعث إليه قصيدة يعزيه بوفاة أخته. وقصد بعد ذلك الوزير ابن العميد الأديب الشاعر، في فارس ومدحه. وسافر إلى عضد الدولة البويهي في مدينة شيراز ، فرحب به وأنزله أفضل منزل، ومدحه بست قصائد كافأه عليها بمال وافر، وخلع سنية. وبقي في شيراز مدة تقارب الثلاثة أشهر، رحل عنها مودعا مليكها بقصيدة كانت آخر قصيدة له، يقول:
وقد رأيت الملوك قاطبة
وسرت حتى رأيت مولاها
تجمعت في فؤاده همم
ملء فؤاد الزمان إحداها
وسار حتى بلغ الأهواز. ثم نزل بواسط ، وهي تبعد عن بغداد نحو أربعين فرسخا. فلما كان بالقرب من النعمانية في موضع يقال له (الصافية) بالجانب الغربي من سواد العراق، خرج عليه فاتك بن أبي جهل الأسدي ومعه عدد من الفرسان، وقيل جماعة من بني ضبة تآمروا على قتله، لأن المتنبي كان قد هجا ضبة بن يزيد بن أخته، وتعرض لأمه وأفحش في هجوهما، فغاظ ذلك فاتكا، وتحين الفرص للفتك به فلما التقيا تقاتلا قتالا عنيفا. فقال له أحد غلمانه، لا يتحدث الناس عنك بالفرار، وأنت القائل:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فقال له المتنبي قتلتني قتلك الله، وقاتل حتى قتل هو وابنه محسَّد وغلامه مفلح. وكان ذلك في رمضان سنة 354هـ/ 965م وهو آنذاك في الواحدة والخمسين من عمره.
هكذا انطفأت شعلة وضاءة، وانتهت حياة شاعر عبقري عظيم سجل اسمه في سجل الخالدين.
(2)
لعب المتنبي دورا كبيرا في الشعر العربي، فقد طرق أبواب الفنون الشعرية المعروفة، ولم يكن في وقته من يساويه في فنونه التي جمع فيها من الأدب فنونا وذلك أنه ضرب في كل شيء منها بسهم وافر. وكان يتخذ شعره صناعة، فلا يقوله ارتجالا ولا يندفع مع سجيته. وقد أجاد وأبدع في شعره سواء من ناحية الخيال والأسلوب.
ويظهر أن ذكاءه الحاد ونفسيته العالية ساعداه كثيرا على التحليق في شعره بين كثير من الشعراء الذين عاصروه. ونتيجة رحلة شاقة في ديوانه وتتبع أخباره وجدت شعره يكاد يتصف بدقة وصف وصدق لهجة وبراعة تركيب وروعة معاني. فهو شاعر متقد العاطفة، مرهف الحس، تطالعنا في شعره صور مغرية جذابة تأخذ بمعاقد القلب. والمتنبي كان أبعد شعراء هذه الحقبة صيتا، ومع أنه كان جوابة يتنقل ما بين مصر و خراسان يمدح الملوك والأمراء والوزراء وينال رفدهم، فإنه يقول كاللائم لنفسه:
إلى كم ذا التخلف والتواني
وكم هذا التمادي في التمادي
وشغل الناس في طلب المعالي
ببيع الشعر في سوق الكساد
أيا خدد الله ورد الخدود
وقدَّ قدود الحسان القدود
فهنَّ أسلن دمًا مقلتي
وعذبن قلبي بطول الصدود
وكم للهوى من فتى مدنف
وكم للنوى من قتيل شهيد
فواحسرتا ما أمـرَّ الفراق
وأعلق نيرانه بالكبود
إلى أن يصل قوله:
أمالك رِقِّي ومن شأنه
هبات اللجين وعتق العبيد
دعوتك عند انقطاع الرجا
ء والموت مني كحبل الوريد
دعوتك لما براني البلاء
وأوهن رجلي ثقل الحديد
وقد كان مشيهما بالنعال
وقد صار مشيهما في القيود
وكنت من الناس في محفل
وها أنا في محفل من قرود
تعجل فيَّ وجـوب الحدود
وحدّي قبل وجوب السجود
وقيل عدوت عن العالمين
بين ولادي وبين القعـود
فما لـك تقبل زور الكلا
م وقدر الشهادة قدر الشهود
فلا تسمعن من الكاشحين
ولا تعبأن بمحك اليهود
وكن فارقًا بين دعوى أردت
ودعوى فعلت بشأو بعيـد
تلك الأبيات تدلنا على أن هناك أعداء كادوا للمتنبي فسجنوه، وأنه لم يفعل ما اتهموه به. وقد أثارت القصيدة عطف الوالي عليه، فأخرجه من السجن وأطلقه واستتابه فيما يظهر، ولكن استتابته مما نسبه إليه العامة، ولم يكن بعسير على المتنبي أن يعلن توبته، وقد رأيناه أنه لم يدع هذه النبوة، وكانت الفترة التي قضاها المتنبي بعد خروجه من السجن فترة تشرد وفاقة وضعة وخمول كان يتصل بالوجهاء وأصحاب المكانة يمدحهم فلا يجيزونه على الشعر، إلا أهون الجزاء. يقولون إنه مدح أحد الوجهاء بالقصيدة المشهورة التالية التي مطلعها:
بأبي الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحرير جلاببا
فجزاه عليها دينارا. ولم تحسن حاله حتى قصد أنطاكية ، واتصل هناك بالأمير أبي العشائر ومدحه بعدة قصائد كان أولها:
أتراها لكثـرة العشاق
تحسب الدمع خلقة في المآقي
فقربه أبو العشائر وحسنت حاله عنده. كان أبو العشائر هذا قريبا لسيف الدولة علي بن حمدان رأس الدولة الحمدانية، فيسر له الوصول إليه، وكان ذلك سنة 337هـ. ودامت صحبة أبي الطيب للأمير ثمان سنوات، وخصص للشاعر ثلاثة آلاف دينار كل سنة عدا الهبات السخية والعطاء المتواصل من مال وثياب وخيول ومزارع، وخلد مقابل ذلك وقائعه مع الروم بقصائد قلَّ أن نجد لها نظيرا في الشعر العربي. ثم حدث ما عكر الصفو، فقصد الشاعر مصر.. فالمتنبي وإن كان قبل اتصاله بسيف الدولة مغمورا ثم تبلورت حياته تبلورا واضحا بعد اتصاله به، إلا أن نفسه كانت تضطرم بثورة أكَّالة، وهو لم يزل في عنفوان الشباب، فقد شرَّق وغرَّب. مكافحًا مناضلا، وعاش مع طموحه في صراع مرير يروي البديعي: كان أبو العشائر والي أنطاكية من قبل سيف الدولة، ولما قدم سيف الدولة أنطاكية قدم المتنبي إليه وأثنى عنده عليه وعرفه منزلته من الشعر والأدب واشترط على سيف الدولة أول اتصاله به أنه إذا أنشده مديحه لا ينشده إلا وهو قاعد وأنه لا يكلف تقبيل الأرض بين يديه. ودخل سيف الدولة تحت هذه الشروط وتطبع إلى ما يريد منه وذلك في سنة 337هـ وحسن موقعه عنده فقربه وأجازه الجوائز السنية ومالت نفسه إليه وأحبه فسلمه للرواض فعلموه الفروسية والطراد والمثاقفة . نال أبو الطيب جاها وحظوة من لدن سيف الدولة، ولكن من أين للشاعر المتعالي المقيم على قلق، أن يهدأ أو بالأحرى أن تهدأ خواطر الذين قطع عليهم بشعره أرزاقهم، أو أقصى منزلتهم من الأمير الذي أجل شاعره في أكرم منزلة. لقد بدأت الوشايات والسعايات في بلاط سيف الدولة تعمل عملها، حتى لقيت في نفس الأمير أكثر من صدى، فتحول حماسه لشاعره إلى فتور، ولا نقول جفاء، خصوصا وأن وراء الوشايات والسعايات كبارا من أمثال أبي فراس الحمداني وابن خالويه والنامي وسواهم من رجال البلاط
وعندها علت صيحات الشعراء وشكواهم من تعالي أبي الطيب عليهم، فأثر ذلك في سيف الدولة ثم قويت نفرته مع أبي الطيب، فأمر غلمانه بقتله، فتعرضوا له في الطريق، غير أنه استطاع تفريقهم عنه واختفى في حلب لدى بعض أصدقائه، وراسل الأمير فأنكر أنه أمر له بسوء، وبعد تسعة عشر يوما جاء إلى القصر، ورحب به سيف الدولة، وخلع عليه وسأله عن حاله، فأجاب: رأيت الموت عندك أحب إلي من الحياة عند غيرك. وكان أشياعه ينشرون مدائحه ويذيعون فضائله ويتأولون به، وأعداؤه يخنقون عليه ويغضون من شأنه. وفي ذات مرة قال أبو فراس شاعر البلاط الحمداني لابن عمه:
(هذا المتشدق كثير الإدلال عليك. فأنت تعطيه ثلاثة آلاف دينار كل سنة على ثلاث قصائد ويمكنك أن تغدق مئتي دينار على عشرين شاعرا يأتون بما هو خير من شعره . (غير أن أبا الطيب فارق سيف الدولة حانقا متبرما فلعل وقوفه بين يدي كافوروهو من أعداء سيف الدولة يثير غيظه، أو لعله أراد به مصانعة كافور لينال منه الذي وفد عليه من أجله على أنه - وإن ترك معه ما جرت به عادته مع سيف الدولة - فقد اتخذ لعزته لونًا آخر، فقد كان يقف بين يديه وفي رجليه خفان وفي وسطه سيفه ومنطقته.
أقام أبو الطيب في مصر أربع سنوات ونصف سنة وعرض في مدائحه لكافور بسيف الدولة ورضي أن ينشد شعره واقفا بين يديه على خلاف عادته، ولقي الشاعر من كرم كافورما جعله في مصاف الأغنياء. ولكنه ما لبث أن أسفر عن أطماعه الأولى، فطلب أن يتولى (ولاية) أو (إمارة) وألح في طلبه هذا وألحف، ومدح نفسه في مطلع القصائد التي مدح بها سيده الجديد. ولما رأى كافور يماطله ويؤجل تنفيذ رغبته، راح يشكو أمله ويمتدح سيف الدولة ويعلن أسفه على فراقه. ودبت النفرة بين الرجلين، وانقطع أبو الطيب عن مدحه ثمانية أشهر، ثم نظم قصيدة ظاهرها المدح وباطنها التأنيب. ثم أصيب بالحمى ونظم أثناء مرضه قصيدة عرض فيها بكافور وبخله. ولم يكن كافورأهلا لهذا الهجاء ربما منع الشاعر ولاية أو ضيعة ولكنه استحقه بما وعد ومطل، ثم أخلف فملأ نفس الشاعر الطموح غيظا. تناقل الناس القصيدة وبلغت كافورا فامتعض. وكانت بين كافور وفاتك الرومي منافسة عنيفة، وكان الثاني يقيم بالفيوم (وهي إقطاعة له) حتى لا يضطر الركوب في معية الأسود، واتصل فاتك بأبي الطيب وراسله، والتقيا في الصحراء، فكانت هديته للشاعر ألف دينار ذهبا أتبعها بعدة هدايا ثمينة، فمدحه بقصيدة وخز فيها كافورا وخزا مؤلمًا.
أما كافورفقد كظم غيظه، وطلب من الشاعر أن يعود إلى سيرته الأولى في مدحه، فتجددت آماله، وحسب أن الوالي - أو كما يلقبه (أبو المسك) و(الأستاذ) سيبرّ بوعده في النهاية، ونظم قصيدة طويلة كرر فيها طلباته السابقة وملأها لوما وتوبيخا، فغضب أبو المسك ومنع الشاعر عن الرحيل وبث حوله العيون والأرصاد. ولما حل العيد وشغلت احتفالاته رجال الدولة هرب أبو الطيب ونظم قصيدته المشهورة هذه عند خروجه من مصر ، ومطلعها:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم بأمر منك تجديد
وسار في درب غير مطروقة، وعلم كافور بالأمر، فكتب إلى عماله أن يقتفوا آثاره ويعتقلوه، لكنه استطاع الإفلات بعد رحلة مضنية حتى وصل الكوفة بعد ثلاثة أشهر..
هجا الشاعر كافورا وأفحش، وجاءت كل كلمة في قصائده شواظا من نار. وبقي في العراق ثلاث سنوات، ومر ببغداد عدة مرات، وأبى أن يمدح الوزير المهلبي، فأغرى به جماعة من شعراء العاصمة، أفرطوا في شتمه وتحقيره فلم يجبهم. علم سيف الدولة بخروج الشاعر من مصر مخاصما لكافور ، وبلغته قصائده في هجوه، فبعث إليه بالهدايا، وسأله القدوم إلى حلب ، فعاد إلى مدحه، ثم بعث إليه قصيدة يعزيه بوفاة أخته. وقصد بعد ذلك الوزير ابن العميد الأديب الشاعر، في فارس ومدحه. وسافر إلى عضد الدولة البويهي في مدينة شيراز ، فرحب به وأنزله أفضل منزل، ومدحه بست قصائد كافأه عليها بمال وافر، وخلع سنية. وبقي في شيراز مدة تقارب الثلاثة أشهر، رحل عنها مودعا مليكها بقصيدة كانت آخر قصيدة له، يقول:
وقد رأيت الملوك قاطبة
وسرت حتى رأيت مولاها
تجمعت في فؤاده همم
ملء فؤاد الزمان إحداها
وسار حتى بلغ الأهواز. ثم نزل بواسط ، وهي تبعد عن بغداد نحو أربعين فرسخا. فلما كان بالقرب من النعمانية في موضع يقال له (الصافية) بالجانب الغربي من سواد العراق، خرج عليه فاتك بن أبي جهل الأسدي ومعه عدد من الفرسان، وقيل جماعة من بني ضبة تآمروا على قتله، لأن المتنبي كان قد هجا ضبة بن يزيد بن أخته، وتعرض لأمه وأفحش في هجوهما، فغاظ ذلك فاتكا، وتحين الفرص للفتك به فلما التقيا تقاتلا قتالا عنيفا. فقال له أحد غلمانه، لا يتحدث الناس عنك بالفرار، وأنت القائل:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فقال له المتنبي قتلتني قتلك الله، وقاتل حتى قتل هو وابنه محسَّد وغلامه مفلح. وكان ذلك في رمضان سنة 354هـ/ 965م وهو آنذاك في الواحدة والخمسين من عمره.
هكذا انطفأت شعلة وضاءة، وانتهت حياة شاعر عبقري عظيم سجل اسمه في سجل الخالدين.
(2)
لعب المتنبي دورا كبيرا في الشعر العربي، فقد طرق أبواب الفنون الشعرية المعروفة، ولم يكن في وقته من يساويه في فنونه التي جمع فيها من الأدب فنونا وذلك أنه ضرب في كل شيء منها بسهم وافر. وكان يتخذ شعره صناعة، فلا يقوله ارتجالا ولا يندفع مع سجيته. وقد أجاد وأبدع في شعره سواء من ناحية الخيال والأسلوب.
ويظهر أن ذكاءه الحاد ونفسيته العالية ساعداه كثيرا على التحليق في شعره بين كثير من الشعراء الذين عاصروه. ونتيجة رحلة شاقة في ديوانه وتتبع أخباره وجدت شعره يكاد يتصف بدقة وصف وصدق لهجة وبراعة تركيب وروعة معاني. فهو شاعر متقد العاطفة، مرهف الحس، تطالعنا في شعره صور مغرية جذابة تأخذ بمعاقد القلب. والمتنبي كان أبعد شعراء هذه الحقبة صيتا، ومع أنه كان جوابة يتنقل ما بين مصر و خراسان يمدح الملوك والأمراء والوزراء وينال رفدهم، فإنه يقول كاللائم لنفسه:
إلى كم ذا التخلف والتواني
وكم هذا التمادي في التمادي
وشغل الناس في طلب المعالي
ببيع الشعر في سوق الكساد
كريم نور- عضو Vip
- عدد الرسائل : 116
تاريخ التسجيل : 07/10/2007
baladna :: المنتدى الثقافى :: شعر
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى